أرتور وأحمد: نزيلان في جحيم السجن الإماراتي
في صباح هذا اليوم من شهر سبتمبر/أيلول، يجلس أرتور في شقة صغيرة على الضفة الشرقية من نهر فيستولا في وارسو، يحكي قصة خلافه مع أحد أفراد الأسرة الحاكمة في أبو ظبي، وما تلاها من اعتقال وحكم بالسجن مدى الحياة، والشهور التي قضاها في السجن قبل أن تتمكّن السلطات البولندية من إطلاق سراحه. الآن وقد أصبح حرا، جلّ ما يريده أرتور هو أن يعرف العالمُ قصة صديقه، أحمد منصور، المعارض الأبرز في الإمارات العربية المتحدة، والذي لم يسمع منه أي خبر منذ اختفائه القسري في مارس/آذار 2017. رواية أرتور عن الوقت الذي قضاه مع أحمد هي أول تقرير تفصيلي عن أحوال المدافع الحقوقي الإماراتي منذ احتجازه.
يضم حساب أحمد منصور على تويتر أكثر من 16 ألف متابع. قبل اعتقاله، طالما استخدم حسابه لانتقاد ما تقوم به النيابة العامة الإماراتية من ملاحقة للناشطين بتهم مرتبطة بالتعبير، ولجذب الانتباه إلى الانتهاكات الحقوقية على امتداد المنطقة.
قبل اعتقاله، كان أحمد آخر مدافع حقوقي في الإمارات، وآخر بصيص أمل في بلد أصبح بمثابة ثقب أسود للنشاط الحقوقي. سلطات الإمارات لا تتسامح مع منتقديها، ولديها حزمة كبيرة من القوانين القمعية المصممة لسحق المعارضة والتي تضمن إسكات الانتقادات. لسنوات، رفض أحمد الرضوخ، وفي نهاية المطاف، استهدفته السلطات الإماراتية. عانى أحمد من نفس ما عانى منه الإماراتيون والإماراتيات الذين ناضل طويلا من أجلهم: جاءته زيارة في وقت متأخر من الليل من جهاز أمن الدولة على متن سيارات رباعية الدفع مظلّلة النوافذ، ثم أُخِذ مُقيّدا بالأصفاد إلى السجن.
يزعم أرتور أن خلافا مع أحد أفراد الأسرة الحاكمة في أبو ظبي كان السبب الحقيقي لاعتقاله في أبريل/نيسان 2018 بتهم تتعلق بالمخدرات. أُبقي عقِبها خمسة أشهر رهن الاحتجاز السابق للمحاكمة في سجن دبي المركزي، ثم حُكم عليه بالسجن المؤبد دون إمكانية السراح المشروط، وقضى في السجن ثمانية أشهر قبل أن تضمن السلطات البولندية إطلاق سراحه في مايو/أيار.
رغم أنه حرّ الآن، ما زال أرتور يحمل ندوب تجربته المؤلمة. يراجع الآن اختصاصيا للتعامل مع اضطراب ما بعد الصدمة الذي يعزوه إلى الوحشية التي رآها في السجن، والاغتصاب الذي يقول إنه تعرّض له على يد حراس السجن. الآن وقد عاد إلى بولندا ويحاول إعادة بناء حياته، يصِف أرتور وضعَ أحمد بأنه قاتم لكن مصحوب بالأمل.
في أبريل/نيسان، دعت “هيومن رايتس ووتش” مجددا السلطات الإماراتية إلى الإفراج عن أحمد الذي كان مؤيدا جهوريا للإصلاح السياسي ومنتقدا قويا لسجل الإمارات القاتم في مجال حرية التعبير والحقوق الأساسية الأخرى. جاء ذلك البيان، والكثير غيره، بعدما شاع خبر إضراب أحمد عن الطعام احتجاجا على سوء معاملته في السجن. كان أرتور مصدر ذلك الخبر.
يقول أرتور: “لم أر أحمد يتعرض لعنف جسدي قطّ. لكنك تجلس في زنزانة مساحتها أربعة أمتار مربعة، وليس لديك الحق في الذهاب إلى المكتبة. يعرفون أنك شخص مثقّف ويحرمونك من الكتابة. تُحرم حتى من الضوء في زنزانتك. لا حاجة إذن للعنف البدني. هذا أمر فظيع وكارثي. هذا تعذيب نفسي. تمكّن أرتور من الاحتفاظ بمذكرات عما قضاه في السجن، وفي الصفحة 150 رسم زنزانتَه: ثقب رطب يعج بالحشرات، لا تتجاوز مساحته أربعة أمتار مربعة، في أرضه ثقب بمثابة مرحاض.
تمكّن أحمد بطريقة ما من الصمود في هذه الشروط دون أن ينهار حتى ديسمبر/كانون الأول 2018. عندها، كان قد مضى نحو عامَيْن على توقيفه، وسبعة أشهر بعد حكم المحكمة عليه بالسجن بعشر سنوات بتهمة “الإضرار بسمعة الدولة ومكانتها ورموزها”، بما في ذلك قادتها. صمد طويلا قبل ذلك أيضا، إذ قضى سبعة أشهر في السجن في 2011 لدعوته إلى الإصلاح السياسي، وتعرض للتهديد بالقتل علنا، ولاعتداءين بدنيين، وسرقة مشبوهة لسيارته، واختفاء غامض لمدخرات شخصية تقدّر بآلاف الدولارات الأمريكية من حسابه المصرفي. رغم كل ذلك، واصل نضالَه.
لكن في ديسمبر/كانون الأول 2018، عندما أيّدت “المحكمة العليا الاتحادية” الحكمَ ضده بالسجن عشر سنوات، هزّه الخبر. يقول أرتور: “أتذكر اليوم الذي خسر فيه الاستئناف، عاد أحمد إلى حبسه الانفرادي وأخذ يصرخ”. بعد ذلك بوقت قصير، قرر أحمد الإضراب عن الطعام. أرتور، الذي كان يُسمَح له بمغادرة الحبس الانفرادي للذهاب إلى الكافيتيريا، بخلاف أحمد، شاهد كيف تدهورت حالة أحمد الصحية كلما مرّ بنافذة زنزانته الصغيرة. خسر فورا الكثير من وزنه وتغيّر لون وجهه”.
قال أرتور إن أحمد بدا على شفير الموت بعد أربعة أسابيع من الإضراب عن الطعام. نُقل حينئذ إلى “الزنزانة 1” ولم يعد التواصل المباشر بينهما سهلا. لكن من خلال سجناء آخرين يتكلمون الإنغليزية، تمكّن أرتور من الحصول على رقمَيْ هاتف من أحمد. “كان أحمد دائما يُحدثني عنكم. عن أصدقائه الناشطين الحقوقيين في أنحاء العالم. كان يعلم دائما أنه مهما سيحدث، ستبقون بجانبه”. أرتور، الذي كان بصدد استئناف الحكم بسجنه مدى الحياة، اتصل بالرقمَين. رقم واحد منهما فقط كان لا يزال يعمل، وكان يعود لكريستينا ستوكوود، صديقة أحمد من “مركز الخليج لحقوق الإنسان”. لحسن الحظ، أجابت كريستينا. في الأيام التالية، انتشر خبر إضراب أحمد عن الطعام الذي دام شهرا في جميع أنحاء العالم.
في السنوات التي سبقت اعتقاله، كان أحمد معزولا بالكامل في الإمارات. العديد من المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية التي سعى للحصول على دعمها ممنوعة فعليا من دخول البلاد. أنفقت الإمارات حوالي مليون دولار لتصميم برمجية تجسّس من أجل اختراق جهاز “آيفون” الخاص به – وهي برمجية تجسّس متطورة لدرجة أن شركة “آبل” اضطرت لإصدار تحديث أمني لجميع مستخدمي هواتف آيفون في أغسطس/آب 2016. أقر أحمد في مكالمات على “سكايب” مع باحثي هيومن رايتس ووتش، والتي تنصّتت إليها السلطات الإماراتية بلا شك، بأنّ وضعه ميؤوس منه، لكنه رفض التراجع. “إذا جاؤوا لأخذي، فهو كذلك”. من المرعب أنه حفِظ هذين الرقمَيْن في أعماق ذاكرته حتى لم يُفلح كل التعذيب النفسي الذي تعرّض له في محوهما.
يتذكر أرتور أن وضع أحمد تحسّن قليلا بعدما ذاعت أخبار إضرابه عن الطعام. أصبح قادرا على مغادرة زنزانته للذهاب إلى الكافيتيريا والاتصال بوالدته والخروج إلى باحة السجن. “أتذكر أنه كان يبكي كطفل صغير”.
لا يمكن التحقق من رواية أرتور عن تفاعله مع أحمد بشكل مستقل. بعد إصدار مجموعة من خبراء حقوق الإنسان في “الأمم المتحدة” بيانا في مايو/أيار 2019 أعربت فيه عن “قلق بالغ بشأن السلامة الجسدية للناشط أحمد منصور المسجون في دولة الإمارات العربية المتحدة”، أصدرت الإمارات بيانا قالت فيه إن المزاعم “لا أساس لها من الصحة” وهدفها “تشويه وتزوير الحقائق”.
السبيل الوحيد المؤكد لمعرفة حالة منصور هو أن تسمح الإمارات للخبراء الأمميين بدخول سجن الصدر، وهو أمر مستبعد للغاية.
قبل انتهاء المقابلة، ينقل أرتور معلومة أخرى مهمة من قضية أحمد: أبلغت سلطات السجن أحمد أن لا سيطرة لديها على ظروفه، وأن جميع التعليمات جاءت مباشرة من قصر الرئاسة. اختار أحمد الخوض في معركة ضارية.
قصة تشابك قِصّتَي رجل الأعمال البولندي والمهندس والشاعر والناشط الحقوقي الإماراتي أحمد منصور، هي مأساة لكلا الرجلين. أحدهما حر طليق، لكنه محطَّم، والآخر في طي النسيان، مختف، محبوس في زنزانة قذرة ورطبة، ومحروم من حريته لأنه تحلى بشجاعة النضال من أجل حريات الآخرين. لكن هناك أمل. حتى في جناح لعزل المساجين في أحد أكثر البلدان قمعا، تمكّن أحمد من إقامة علاقة إنسانية وإيصال رسالته. لا يزال معنا، ولا يزال يناضل.
هيومن رايتس ووتش